من المؤكد أن قرار ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بتوجيه صندوق الاستثمارات العامة التابع للمملكة أخيراً ضخ استثمارات في مصر قيمتها 5 مليارات دولار بصورة عاجلة في مرحلة أولى، يعد دلالة مهمة على ذوبان ما تبقى من جبل الجليد الذي تراكم بين مصر والمملكة خلال الفترة الماضية، والذي لم يعرف على وجه التحديد ما هي أوجه الخلافات التي أدت إلى نشأته واستمراره، ولم يعرف أيضاً كيف ذاب مؤخراً أثناء زيارة قام بها رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي قبل أيام للعاصمة الرياض.
إذاً، هناك تغير ملموس في العلاقات المصرية السعودية، في ضوء تصريحات سابقة لمسؤولين سعوديين، والحديث عن تغيير المملكة طريقة تقديم المساعدات لحلفائها من منح مباشرة وودائع دون شروط. ففي مطلع العام الماضي، قال وزير المالية السعودي، محمد الجدعان: “اعتدنا تقديم منح ومساعدات مباشرة دون شروط، ونحن نغير ذلك. نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف لنقول بالفعل إننا بحاجة إلى رؤية إصلاحات”، وهي التصريحات التي اعتبرها مراقبون وقتها موجهة بصورة مباشرة لمصر، المتلقي الأكبر للمساعدات السعودية، كما اعتبرت كذلك ذروة الخلافات التي أصبحت علنية بين البلدين.
توجد العديد من الدلالات الأخرى على ذوبان هذا الجليد في الأيام الأخيرة، من بينها التصريحات التي خرجت من وزارة البترول المصرية التي أكدت أن السعودية وليبيا موّلتا شراء شحنات غاز طبيعي مسال لمصر بقيمة 200 مليون دولار، على الأقل، لمساعدتها على تخفيف أزمة الطاقة التي واجهتها البلاد خلال الفترة الماضية، وأجبرت الحكومة على تخفيف الأحمال وقطع الكهرباء لساعات طويلة عن المنازل والمصانع، وهو الأمر الذي أربك كثيراً القطاع الصناعي المصري، فضلاً عن تسببه في حالة متصاعدة من الغضب الشعبي المكبوت تجاه الحكومة.
وخلال زيارته الرياض، أكد رئيس مجلس الوزراء المصري أنه يجري وضع اللمسات النهائية على اتفاقية حماية الاستثمار السعودي المصري، وأنها ستفعل خلال شهرين، وأن حكومته نجحت في إنهاء أغلب مشكلات المستثمرين السعوديين في مصر، حيث جرى التوصل إلى حلول لنحو 90 مشكلة من التحديات التي تواجه المستثمرين السعوديين، ويتبقى 14 منازعة فقط سيجري العمل على حلها خلال الفترة المقبلة.
ولعلّ وصف وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الاستثمارات السعودية التي جرى الإعلان عنها خلال زيارة مدبولي الرياض بأنه سيجري ضخها “بصورة عاجلة” يشير بوضوح إلى حاجة مصر الملحة لتلك الأموال، وأنها بمثابة إعانة عاجلة للاقتصاد المصري، جاءت في صورة استثمارية، ربما منعاً للإحراج، أو تطبيقاً لتصريحات وزير المالية السعودي المعبرة عن التوجهات الجديدة للمملكة، لكن الغريب أن الحزمة السعودية الجديدة جرى تمريرها دون الإعلان عن طبيعة المشروع الاستثماري الذي ستكون جزءاً منه، وفي ضوء أن دراسة الفرص المتاحة لا تزال مستمرة، وأن المشاكل الاستثمارية لا يزال بعضها لم يحل بعد، كما أنّ اتفاقية حماية الاستثمار لم توقع بعد، الأمر الذي يعني أنّ بعضاً من بنود اتفاقية الاستثمار لا يزال محلاً للجدال، في ظل عدم الكشف عن تفاصيلها، وهو الأمر الذي يؤكد أن تلك الدفعة هي إعانة عاجلة للاقتصاد المصري، وليست استثماراً بالمعنى المتعارف عليه.
تضمن قانون الاستثمار المصري رقم 72 لسنة 2017 ولائحته التنفيذية العديد من الضمانات الهادفة إلى حماية جميع المستثمرين وتحقيق مبدأ المعاملة العادلة والمُنصفة، ومنحهم الحق في تحقيق المكاسب، وتحويل الأرباح بالعملات الأجنبية، دون أي قيود بما يساهم في تشجيع النشاط الاستثماري في مصر، وجذب مزيد من الاستثمارات المحلية والأجنبية، وبذلك فإن القوانين المصرية قد ضمنت المعاملة العادلة والمنصفة، علاوة على حماية رأس المال المستثمر من أية إجراءات تعسفية، فضلاً عن التنظيم القانوني لعمليات التخارج والتصفية، وكفالة حرية تحويل الأرباح.
كان من المنطقي أن تكون تلك المزايا وغيرها الكثير التي تتضمنها بنود القانون كافية للجانب السعودي وغيره من المستثمرين، ولكن جاءت البنود التي جرى الإعلان عن بعضها في الاتفاقية لتثير الكثير من الجدل، فمثلاً النص على حماية الاستثمارات السعودية في مصر في حالات الحرب أو النزاعات أو الثورات أو حالات الطوارئ والاضطرابات، كما أنها تضمن حماية الاستثمارات من أي إجراء يجرد مستثمريها كلياً أو جزئياً من بعض حقوقهم، ومنع تأميم أو نزع الملكية، أو إخضاعها لأشخاص وجهات أخرى، وهي البنود التي قد تفسر على أنها تخوف سعودي من مستقبل الاقتصاد المصري في الأجلين القصير والمتوسط، والذي تشوبه الكثير من الضبابية، في ظل التراكم الحاد للديون، وتراجع مستويات المعيشة.
ويفسر الأمر كذلك بأنه في حال الضعف الاقتصادي المصري المتصاعد يحاول المستثمرون الحصول على أكبر مزايا إضافية ممكنة، ولكن بعض البنود الأخرى تشير إلى زوايا مهمة، منها النص على “المعاملة التي لا تقل أفضلية عن المستثمرين الوطنيين”، وهو الأمر الذي يشير بوضوح إلى المزايا التي تتمتع بها الشركات التابعة للجيش التي تتمتع بمعاملة ضريبية وجمركية تميزية، لا يستطيع أي مستثمر أجنبي الحصول عليها، وبلغ الأمر حدود إعفائها من ارتفاعات أسعار الكهرباء والغاز، وكلها مميزات تستحيل معها المنافسة العادلة.
كما جاء النص على تحويل الأرباح والمستحقات دون تأخير، وعلى أولوية الحصول على العملة الأجنبية من البنك المركزي المصري، خاصة في ظل التوقعات بتفاقم أزمة العملة بين الحين والآخر، على خلفية التزامات المديونية المتصاعدة. وربما يكون هذا النص هو المحل الأساسي للجدل في اتفاقية حماية الاستثمارات السعودية في مصر، لأن إقراره سيترتب عليه تمرير هذه المزايا لأي مستثمر أجنبي آخر، الأمر الذي يعني عملياً، إما تحميل الدولة أعباء تلك المزايا للجميع، أو حرمان الجميع منها، بما فيهم شركات الجيش، وهي معضلة كبيرة، حيث وقفت الدولة دائماً ضد حرمان شركات الجيش من أي مميزات، وكان ذلك ولا يزال محل خلاف كبير مع المؤسسات الدولية.
وعموماً يمكن القول إن النص الأكثر خطورة في اتفاقية حماية الاستثمارات السعودية في مصر هو البحث عن إجراءات قانونية جديدة لحل منازعات الاستثمار، وهو النص الذي يقدح مباشرة في النظام القضائي المصري واجراءاته، لا سيما المتعلقة منها بالاستثمار، ومن المهم هنا الإشارة إلى أن اللجوء للمحاكم الاقتصادية المصرية يتطلب الدفع المقدم لنسبة من المبلغ المتنازع عليه، وهو الأمر الذي يصعب اللجوء للمحكمة.
بصفة عامة، طلب ضمانات إضافية لحماية الاستثمارات السعودية في مصر يعدّ انتهازاً لفرصة الضعف الاقتصادي الذي تعاني منه مصر حالياً، وعلى الرغم من ذلك يجب أن نتذكر أنها ليست استثمارات، وإنما بيع لأصول الدولة، كما أنه بيع غير مشروط بآليات واضحة ومحددة للتنفيذ، بل المضحك أنه في الحالة السعودية هذه لم يحدد المشروع المموّل، أو الذي سيجري تنفيذه من الأساس، كما لا يجب أن نهمل أنه لا توجد آلية واضحة وشفافة لتسعير هذه الأصول، والأهم أن الجميع في مصر، وبحكم القانون الذي جرى تشريعه في السنوات الأخيرة، ممنوعون من الطعن على العقود الحكومية.
ومن الجدير بالذكر أنه طبقاً لجهاز الإحصاء السعودي فإن حجم الاستثمارات الخارجة من مصر والمتجهة نحو المملكة خلال السنوات العشر الأخيرة جاءت أضعاف حجم الاستثمارات السعودية الداخلة إلى مصر خلال الفترة نفسها، وهو الأمر الذي يشير بوضوح إلى هروب المستثمرين المصريين من بيئة استثمارية أضحت طاردة، وأن مجرد توقيع اتفاقيات لن يغير الواقع الذي لم تنجح الدولة المصرية في تغييره حتى الآن.
نقلا عن موقع العربي الجديد
اترك تعليقاً