تمويل التنمية.. الفريضة الغائبة في اليمن
خلال الفترة 1995-2014، نفذت الحكومات المتعاقبة في اليمن أربعة خطط تنموية، وتحقق تقدم محرز في مجالات التنمية البشرية “التعليم والصحة” والبنية التحتية “الطرقات والمياه والصرف الصحي والكهرباء والاتصالات” فضلاً عن حدوث تطور ملموس في قطاعات النفط والغاز والصناعة وغيرها من القطاعات.
وفي هذا الإطار، لعبت وزارة التخطيط والتعاون الدولي دوراً محورياً في التنسيق مع الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى ومع المحافظات لإعداد الخطط التنموية كل خمس سنوات وفقاً لمنهجية علمية تتسق مع أولويات التنمية الوطنية، كما قامت الوزارة بالتنسيق والتعاون مع الجهات المانحة لحشد الموارد المالية اللازمة لسد الفجوة التمويلية للمشاريع التنموية الواردة في خطط التنمية وبرامجها، وعُقدت أربع مؤتمرات للمانحين في بروكسل وباريس ولندن والرياض لتمويل المشاريع الاستثمارية في تلك الخطط من الجهات المانحة وعلى رأسها البنك الدولي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والعديد من مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية.
وكانت مصادر التمويل لخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية تتكون من الموارد المحلية “عوائد النفط والغاز والضرائب والجمارك”، ومن المصادر الخارجية “القروض الميسرة والمنح والمساعدات” وبنظرة سريعة على أهم المشاريع التنموية الاستراتيجية، فإن تمويلها كان من القروض والمساعدات، مثل سد مأرب ومحطات الكهرباء وشبكات الربط بين المدن والمحافظات، ومعظم المطارات، والطرقات الرئيسية بين المحافظات، والأنفاق والجسور في صنعاء، وشبكات المياه والمجاري في المدن الرئيسية والثانوية وجامعات صنعاء وعدن وتعز وذمار وحضرموت، وآلاف المدارس والمستشفيات العامة في عدد من المحافظات.
وللأسف، سببت الحرب منذ اندلاعها في 2014، توقف عوائد الصادرات من النفط والغاز وتجميد القروض والمساعدات التنموية، كما أدت إلى الخراب والدمار في مشاريع البنية التحتية من الكهرباء إلى الجسور ومحطات الاتصال والمرافق العامة والخاصة، وفقدت اليمن التمويل لعدد من المشاريع الهامة، مثل محطة الكهرباء الغازية 2 في مأرب، ومطار صنعاء الدولي، والمدينة الطبية بتعز، ومحطة توليد الكهرباء بالرياح في ذو باب والطريق السريع بين تعز وعدن، فضلاً عن مئات المشاريع في قطاعات الطرق والمياه والتعليم والصحة وغيرها.
غياب الخطط التنموية
رغم الهدنة القائمة منذ ثلاث سنوات، فإن كلّاً من سلطتي عدن صنعاء تعملان وفقاً لمبدأ “ما بدى بدينا عليه”، فليس هناك أي تحضير لإعداد خطط وبرامج تنموية تناقشها وتوافق عليها الحكومة ويقرها مجلس النواب، بل إن السلطتين في صنعاء وعدن تديران موارد الدولة بدون ميزانية عامة توضح حجم الإيرادات والنفقات العامة، مما يدل على التخبط وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه الاحتياجات التنموية في كل القطاعات والمحافظات.
وزارة التخطيط والتعاون الدولي في سلطة عدن مغيبة وغير فاعلة في إعداد خطط التنمية وبرامجها، وتفتقد للوسائل والآليات اللازمة لحشد الموارد من الجهات المانحة والتنسيق معها لتنفيذ المشاريع التنموية، مما جعل بعض الجهات المانحة تتكفل بتمويل مشاريعها وتنفيذها من دون وجود خطة وطنية لها، البرنامج السعودي مثالاً.
وفي المقابل، أقدمت سلطة صنعاء مؤخراً على إلغاء وزارة التخطيط والتعاون الدولي من هيكل الحكومة، مما يعكس الجهل بأبجديات عمل الحكومة وبأهمية وجود خطط تنموية تحدد الأهداف والأولويات الوطنية وحشد الموارد لتمويل المشروعات الاستثمارية في كل القطاعات والمحافظات، فالتخطيط يعتبر وظيفة سيادية للدولة، والحكومة ملزمة دستورياً بإدارة الشأن الاقتصادي وفقاً لخطة عامة للدولة.
الدستور في المادة (9) ينص على أن “تقوم السياسة الاقتصادية للدولة على أساس التخطيط الاقتصادي العلمي، وبما يكفل الاستغلال الأمثل لكافة الموارد وتنمية وتطوير قدرات كل القطاعات الاقتصادية في شتى مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي إطار الخطة العامة للدولة بما يخدم المصلحة العامة والاقتصاد الوطني”. فالخطة تمثل وثيقة مرجعية للحكومة لتنفيذ الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، كما تعتبر إطاراً معرفياً للتنسيق والتعاون مع الجهات المانحة حتى تتمكن من دعم جهود التنمية الوطنية وفقاً للأولويات والاحتياجات الملحّة.
انحسار التعاون الدولي
يفرض الواقع الراهن للأوضاع الاقتصادية في اليمن ضرورة الانتقال من مرحلة تلقي المساعدات الإنسانية إلى مرحلة البحث الدؤوب عن مصادر لتمويل مشاريع تنموية تساهم في تحسين الظروف المعيشية والحدّ من البطالة والفقر، وما يؤسف له أنّ كلّاً من سلطتي عدن وصنعاء يفتقدان لوثيقة وطنية تحدد الاحتياجات التنموية ذات الأولوية في المدى القصير والمتوسط لعرضها على مجتمع المانحين لحشد الموارد لتمويل مشاريع التنمية بالبلاد، فكلتا السلطتين تتبعان سياسة تصفير التعاون الدولي وعدم الاكتراث بتعزيز العلاقات الثنائية مع الدول الصديقة والشقيقة أو مع المؤسسات الإقليمية والدولية.
سلطة صنعاء ألغت الوزارة المعنية بالتعاون الدولي، وهذا أعطى رسالة للمانحين بأن السلطة غير معنية بالتنسيق والتعاون مع الأسرة الدولية لمعالجة التحديات الإنسانية والتنموية التي تواجه اليمن في أزمتها الراهنة، كما أن سلطة عدن تكاد تكون غائبة عن التنسيق والمتابعة للمشاريع والأنشطة التي تنفذها الجهات المانحة.
البنك الدولي، مثلاً، لا يزال يقدم مساعدات معتبرة في المجال الإنساني والتنموي، بلغت خلال فترة الحرب أكثر من 4 مليارات دولار، ونتيجة لضعف أداء الجهات الحكومية المعنية بإدارة المشاريع وبالمتابعة والتقييم لها، فإن البنك الدولي، خلال فترة الحرب، يقدم دعمه لليمن من خلال مؤسسات الأمم المتحدة وبالشراكة مع مؤسسات وطنية ذات سمعة طيبة وخبرة واسعة في إدارة المشاريع وتنفيذها، مثل الصندوق الاجتماعي للتنمية ومشروع الأشغال العامة، اللذين اكتسبا ثقة المانحين واحترامهم خلال أكثر من عقدين من الزمن، منذ تأسيسهما في نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي، كما أن مهمة تقييم تلك المشاريع يوكلها البنك إلى طرف ثالث، والذي عادة ما يكون مؤسسة أو منظمة غير حكومية.
أهمية الدعم الدولي
تصنف اليمن ضمن الدول الأقل نمواً والمؤهلة للحصول على قروض ميسرة ومنح من الجهات المانحة، ومنذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، دأبت الحكومات المتعاقبة في اليمن على تعزيز التعاون الدولي والتنسيق مع الدول والمؤسسات المانحة بهدف تمويل سلسلة واسعة من المشاريع التنموية، وتمكنت الحكومات من بناء علاقات متطورة مع مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية، من خلال عقد عدد من مؤتمرات المانحين، والحصول على تعهدات من الجهات المانحة لما يقارب 18 مليار دولار لتمويل خطط التنمية وبرامجها، وجاءت الحرب لتقطع زخم تلك العلاقات التنموية، ولتخسر اليمن قرابة 50% من تلك التعهدات، إضافة إلى ضياع فرص تمويل مشاريع التنمية خلال فترة الحرب.
ورغم ذلك، ظل المانحون يواصلون الدعم الإنساني والإغاثي لليمن خلال سنوات الحرب، وعُقدت مؤتمرات سنوية للمانحين لدعم خطط الاستجابة الإنسانية بلغت ذروتها في عام 2019 بأكثر من 4 مليارات دولار، ولكنها تراجعت في عام 2024 إلى قرابة 700 مليون دولار، مما يعبر عن عزوف المانحين عن الأزمة الإنسانية اليمنية وبروز أزمات أخرى في المنطقة “السودان، غزة، لبنان”.
ما العمل؟
الظروف الإنسانية والتنموية المتدهورة في اليمن تفرض على أطراف الصراع في كل من عدن وصنعاء الدخول في حوار جاد لاستكمال التوقيع على توافقات خريطة الطريق لإنهاء الحرب والانتقال إلى مرحلة الوئام والسلام، وبالتوازي مع ذلك التوافق على تحييد الملف الاقتصادي والتنموي وتفعيل الأدوات والآليات اللازمة لمعالجة الأوضاع التنموية المتردية، ويمكن التنسيق مع مكتب البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” لإعداد وثيقة وطنية “برنامج أو خطة” مرحلية لمدة 3-5 سنوات، تتضمن الأولويات العاجلة “الإنسانية” والمتوسطة المدى “التنموية” لمعالجة الاحتياجات الإنسانية والتنموية في مختلف القطاعات والمحافظات، ولتكون بديلاً عن خطة الاستجابة الإنسانية السنوية، وهذا الأمر يتطلب العمل على محورين أساسيين:
الأول: توفير الموارد المالية المحلية لتمويل البرنامج أو الخطة الوطنية، من خلال عوائد تصدير النفط والغاز والإيرادات الضريبية والجمركية.
والثاني: الترتيب لعقد مؤتمر للمانحين لعرض الوثيقة الوطنية بهدف حشد الموارد من مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية ومن صناديق الدول الشقيقة والصديقة ومؤسساتها لسدّ فجوة التمويل للمشاريع التنموية الواردة في الوثيقة الوطنية.