29 ديسمبر، 2024

الخبير الاقتصادي البارز الدكتور “العباسي ” يكشف حقائق “العبث الاقتصادي في اليمن والمصير المجهول”(اعادة نشر)

image_pdf

المشهد الأخير – خاص

تفيد التجارب من دول عديدة في العالم أن سوء إدارة الشأن الاقتصادي يقود حتما إلى إنهيار بناء الدولة وإلى تمزق النسيج الاجتماعي وإنتشار الفوضى والذهاب بالوطن والإنسان إلى المجهول، وعادة ما يكون سبب ذلك هو اتباع سياسات اقتصادية خاطئة والعجز عن تقديم حلول ناجعة لمعالجة الاختلالات والتحديات المالية والنقدية والتجارية والاستثمارية التي قد تواجه البلاد في ظل الظروف العادية ناهيك عن ظروف الحرب والدمار،

والمتابع لما يجري الآن من تدهور اقتصادي في مناطق نفوذ سلطتي عدن وصنعاء سيصل إلى نفس النتيجة، فالسلطتان، خلال فترة الحرب ومدة الهدنة المستمرة منذ 3 سنوات، تعاملتا مع إدارة الوضع الاقتصادي بطريقة فوضوية ولا مسؤولة، تستهدف هدر المنظومة الإنتاجية والمؤسسية للبنية الاقتصادية في البلاد، والدلائل على ذلك كثيرة تتجسد في إنهيار القوة الشرائية للريال والتصاعد المستمر لأسعار السلع والخدمات “التضخم”، وتزايد معدلات البطالة والفقر وغيرها من المؤشرات الاقتصادية،

وما يحدث هذه الأيام في مناطق سلطة عدن خير دليل على هذا العبث والفوضى في الجانب الاقتصادي ويضع البلاد على شفا جرفٍ هارٍ مسببة أثارا كارثية على حياة الناس ومعيشتهم وكرامتهم، ويمكن الإشارة إلى بعض مظاهر سوء إدارة الشأن الاقتصادي بالتالي:

– الإخفاق في إدارة الموارد السيادية العامة وفي توريدها إلى خزينة الدولة، فالموارد المالية من النفط والغاز والضرائب والجمارك تذهب إلى حسابات جهوية “عدن، مأرب، حضرموت، المخا” خارج إطار السلطة المركزية والتي اتجهت نحو تمويل نفقاتها من مصادر تضخمية عن طريق الإصدار النقدي، وهذا كان له أثارا كارثية على سعر صرف الريال،

– الفشل في إدارة الجوانب النقدية وعدم القدرة على إدارة سعر الصرف بشكل سليم، مما جعله في خالة إنهيار مخيف أو غرق حر، وهذا له إنعكاسات خطيرة على مستوى دخول الناس ومعيشتهم، فقد تعدى سعر صرف الدولار حاجز 2000 ريال، مما يعني أن الريال فقد حوالي 90% من قوته الشرائية مقارنة بما قبل الحرب، ويُخشى أن يستمر بالتدهور نحو 3000 أو 4000 ريال في المدى المنظور، وفي هذه الحالة سيفقد الريال قيمته ووظيفته ويفقد الناس ثرواتهم ودخولهم المقيمة بالريال، وتتصاعد أسعار السلع والخدمات إلى مستويات قياسية،

من الواضح أن سوق الصرف في مناطق عدن يعاني من اختلالات كبيرة أبرزها إنكماش حجم العرض من النقد الأجنبي مع تزايد حجم الطلب على العملات الأجنبية لمواجهة فواتير الاستيراد، كما أن سلطة عدن أصبحت طرفا مؤثرا في المنافسة للحصول على الدولار لتغطية مرتبات موظفيها خارج البلاد، مما يزيد من تدهور سعر الصرف أكثر وأكثر، وللأسف فإن الإدارة العليا لسلطة عدن قد لا تحس بمعاناة الناس وشظف عيشهم، لأنها تحصل على مرتباتها بالعملة الأجنبية “الدولار، الريال السعودي، الدرهم الإماراتي”، ومن المخزي أن هذه الفئة تعيش خارج البلاد، بينما فئة الإدارة الوسطى والأدني ومعهم عامة الناس يكتوون بنار التضخم والغلاء والفقر والمعاناة،

– العجز التام عن حشد التمويل للمشاريع التنموية من الجهات المانحة “الإقليمية والدولية”، وعدم القدرة على تهيئة الظروف الملائمة للاستثمارات المحلية والخارجية، بل ساهمت السلطة في التضييق على المستثمر الوطني مما دفعه للهروب برأسماله واستثماره في الدول المجاورة، فخلال النصف الأول من العام الجاري، 2024، منحت السعودية حوالي 600 ترخيص لمستثمرين يمنيين في المملكة، وفي هذا تشترك كل من سلطتي عدن وصنعاء في تحمل وزر إيجاد بيئة طاردة للمستثمر الوطني،

وعلى الجانب الآخر، فإن سلطة صنعاء ابتدعت أساليبها الخاصة في إدارة الموارد السيادية، فقد تفننت في تنويع مصادر الجبايات المجحفة من الضرائب والجمارك والزكاة والأوقاف والرسوم الأخرى، وأعفت نفسها من أية إلتزامات تجاه مرتبات الموظفين أو الإنفاق على المشروعات التنموية، مما يجعل السلطة مساهمة في تجميد النشاط الاقتصادي والتنموي،

كما تفتق إبداع السلطة في إصدار قانون منع التعاملات الربوية ليقضي على القطاع المصرفي ويرمي البنوك التجارية والإسلامية والتمويل الأصغر في أتون الإعسار المالي والإفلاس، ويحرم مئات آلاف المودعين من الاستفادة من ودائعهم وعوائدها، والدفع بهم إلى براثن الفقر والفاقة، إضافة إلى عجز تلك البنوك عن تمويل التجارة الخارجية مما يعني الإنغلاق عن العالم الخارجي، ويصبح مصير البنوك إلى المجهول،

وفي جانب السياسة النقدية، تمكنت سلطة صنعاء من تحقيق الاستقرار النسبي لسعر الصرف، لكنها أخفقت في المحافظة على استقرار التضخم، فأسعار السلع والخدمات تتزايد بشكل مستمر وأثقلت كاهل المواطنين محدودي الدخل،

كما أن سلطة صنعاء تتبع سياسة ممنهجة لتضييق الخناق على القطاع الخاص من خلال الجبايات والإتاوات المتنوعة والمتكررة، وإغلاق نوافذ التمويل للمشاريع الاستثمارية من القطاع المصرفي الذي أصبح في حالة موت سريري، إضافة إلى عرقلة أنشطة وأعمال المنظمات الدولية العاملة في مجال الدعم الإنساني والإغاثي، وقطع جسور التواصل مع الجهات والمؤسسات المانحة الإقليمية والدولية إلى درجة إلغاء الوزارة المعنية بالتعاون الدولي من هيكل الحكومة،

إن حالة العبث الاقتصادي الممارس من سلطتي عدن وصنعاء تقود إلى الاستنتاجات التالية:

– إن كلا السلطتين تديران الموارد السيادية للبلاد بطريقة غير مسؤولة بعيدا عن الشفافية والمساءلة، وهذا يعني إتساع دائرة الفساد المالي والإداري، خاصة وأن كلا السلطتين ليس لهما ميزانية عامة معلومة وموافق عليها من السلطة التشريعية، وكل هذا يؤكد حجم العبث والفوضى في إدارة الشأن الاقتصادي في مناطق عدن وصنعاء،

– تتحمل السلطتان في عدن وصنعاء مسؤولية عدم الوصول إلى إتفاق سياسي ينهي الحرب، وللأسف، فقد استمرءا إدارة البلاد في ظل اللاحرب واللاسلم لتعظيم مكاسبهم الشخصية بعيدا عن المساءلة والمحاسبة، وغير عابئين بهموم الناس وظروف عيشهم القاسية،

– إن كل المؤشرات الاقتصادية المرتبطة بالتضخم وتدهور القوة الشرائية للعملة الوطنية والبطالة والفقر تدل أن الأوضاع تتجه نحو المجهول وأن كلا السلطتين فقدتا الشرعية السياسية والشرعية الاقتصادية،

–  إن كلا السلطتين تتحملان مسؤولية عزل اليمن ووضعه خارج مسار العلاقات والتعاون مع المحيط الإقليمي والدولي، وما يدل على ذلك عزوف الجهات المانحة عن تقديم الدعم الإنساني والتنموي لمعالجة الأزمة الحادة التي تعيشها البلاد لأكثر من عقد من الزمن،

– إن كلا السلطتين أخفقتا في تلبية توقعات الناس في كل مناطق اليمن حول الرغبة بالسلام والاستقرار وتجاوز مرحلة الحرب وتداعياتها الكارثية على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية،

– إن كلا السلطتين فشلتا فشلا ذريعا في توفير بيئة حاضنة للاستثمار الوطني والأجنبي، مما زاد من حدة الأزمة الاقتصادية وعدم القدرة على توليد فرص العمل للشباب والذين أصبحوا ينشدون الهجرة إلى الخارج ويواجهون الويلات في سبيل بحثهم عن فرص العيش الكريم،

Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *